فصل: 6ـ فصل في رياضة الصبيان في أول النشوء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **


كتاب رياضة النفس وتهذيب الخلق ومعالجة أمراض القلوب

وذلك في فصول‏:‏

أعلم‏:‏ أن الخلق الحسن صفة من صفات الأنبياء والصديقين، وأن الأخلاق السيئة سموم قاتلة، تنخرط بصاحبها في سلك الشيطان، وأمراض تفوت جاه الأبد، فينبغي أن تعرف العلل ثم التشمير في معالجتها، ونحن نشير إلى جمل من الأمراض، وكيفية معالجتها في الجملة من غير تفصيل، فإن ذلك يأتى مبيناً إن شاء الله تعالى‏.‏

الفصل الأول

1ـ في فضيلة حسن الخلق وذم سوء الخلق

وقد ذكر شئ من ذلك في آداب الصحبة‏.‏

واعلم‏:‏ أن الناس قد تكلموا في حسن الخلق متعرضين لثمرته لا لحقيقته، ولم يستوعبوا جميع ثمراته، بل ذكر كل منهم ما حضر في ذهنه، وكشف الحقيقة في ذلك أن يقال‏:‏ كثيراً ما يستعمل حسن الخلق مع الخلق فيقال‏:‏ فلان حسن بالخَلق والخُلق‏.‏ أي حسن الظاهر والباطن، فالمراد بالخَلق‏:‏ الصورة الظاهرة، والمراد بالخُلق‏:‏ الصورة الباطنة، وذلك أن الإنسان مركب من جسد ونفس‏.‏فالجسد مدرك بالبصر، والنفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحدة منها هيئة وصورة إما جميلة وإما قبيحة، والنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم الله سبحانه وتعالى أمره فقال‏:‏ ‏{‏إني خالق بشراً من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 71-72‏]‏، فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين، والروح منسوب إليه سبحانه وتعالى، فالخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الأفعال جميلة سميت خلقاً حسناً، وإن كانت قبيحة سميت خلقاً سيئاً‏.‏وقد زعم بعض من غلبت عليه البطالة فاستثقل الرياضة، أن الأخلاق لا يتصور تغييرها، كما لا يتصور تغيير صورة الظاهر‏.‏

والجواب‏:‏ أنه لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى، وكيف تنكر تغيير الأخلاق ونحن نرى الصيد الوحشي يستأنس، والكلب يعلم ترك الأكل، والفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد، إلا أن بعض الطباع سريعة القبول للصلاح، وبعضها مستصعبة‏.‏وأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة لا يتغير، فاعلم أنه ليس المقصود قمع هذه الصفات بالكلية، وإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، وأما قمعها بالكلية فلا، كيف والشهوة إنما خلقت لفائدة ضرورية في الجبلة، ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، أو شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية، لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه، وقد قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏أشداء على الكفار‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ ولا تصدر الشدة إلا عن الغضب، ولو بطل الغضب لامتنع جهاد الكفار، وقال تعالى ‏:‏‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏ ولم يقل ‏:‏ الفاقدين الغيظ‏.‏ وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والتقلل‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 31‏]‏ إلا أن الشيخ المرشد للمريد إذا رأى له ميلاً إلى الغضب أو الشهوة، حسن أن يبالغ في ذمها على الطلاق ليرده إلى التوسط، ومما يدل على أن المراد من الرياضة الاعتدال أن السخاء خلق مطلوب شرعاً وهو وسط بين طرفي التقتير والتبذير وقد أثنى الله عليه بقوله ‏:‏‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏‏.‏

واعلم‏:‏ أن هذا الاعتدال‏.‏ تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخلق، فكم من صبى يخلق صادقاً سخياً حليماً، وتارة يحصل بالاكتساب، وذلك بالرياضة، وهى حمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب ، فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجود من البذل ليصير ذلك طبعاً له‏.‏وكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين، وكذلك جميع الأخلاق المحمودة فإن للعادة أثراً في ذلك، كما أن من أراد أن يكون كاتباً تعاطى فعل الكتابة، أو فقيهاً تعاطى فعل الفقهاء من التكرار، حتى ينعطف على قلبه صفة الفقه، إلا أنه لا ينبغي أن يطلب تأثير ذلك في يومين أو ثلاثة، وإنما يؤثر مع الدوام، كما لا يطلب في النمو علو القامة في يومين أو ثلاثة، وللدوام تأثير عظيم‏.‏ وكما لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعات، فإن دوامها يؤثر، وكذلك لا يستهان بقليل من الذنوب‏.‏كما أن تعاطى أسباب الفضائل يؤثر في النفس ويغير طبعها، فكذلك مساكنة الكسل أيضاً يصير عادة، فيحرم بسببه كل خير‏.‏ وقد تكتسب الأخلاق الحسنة بمصاحبة أهل الخير، فإن الطبع لص يسرق الخير والشر‏.‏قلت‏:‏ ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل‏"‏‏.‏

2ـ الفصل الثاني

في بيان الطريق إلى تهذيب الأخلاق

قد عرفت أن الاعتدال في الأخلاق هو الصحة في النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض، فاعلم أن مثال النفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل بالتربية والغذاء، كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم‏.‏وكما أن البدن إذا كان صحيحاً، فشأن الطبيب العمل على حفظ الصحة، وإن كان مريضاً، فشأنه جلب الصحة إليه، كذلك النفس إذا كانت زكية طاهرة مهذبة الخلاق، فينبغي أن يسعى بحفظها وجلب مزيد القوة إليها، وإن كانت عديمة الكمال، فينبغي أن يسعى بجلب ذلك إليه‏.‏وكما أن العلة الموجبة لمرض البدن لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة وإن كانت من البرودة فبالحرارة، فكذلك الأخلاق الرذيلة التي هي من مرض القلب، علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى‏.‏وكما أنه لابد من احتمال مرارة الدواء، وشدة الصبر عن المشتهيات لصلاح الأبدان المريضة، فكذلك لابد من احتمال المجاهدة، والصبر على مداومة مرض القلب بل أولى، فإن مرض البدن يخلص منه بالموت، ومرض القلب عذاب يدوم بعد الموت أبداً وينبغى للذي يطبُّ نفوس المريدين أن لا يهجم عليهم بالرياضة في فن مخصوص، حتى يعرف أخلاقهم وأمراضهم، إذ ليس علاج كل مريض واحداً، فإذا رأى جاهلاً بالشرع علمه، وإذا رأى متكبراً حمله على ما يوجب التواضع، أو شديد الغضب ألزمه الحلم‏.‏وأشد حاجة الرائض لنفسه، قوة العزم، فمتى كان متردداً بعد فلاحه، ومتى أحس من نفسه ضعف العزم تصبر، فإذا انقضت عزيمتها عاقبها لئلا تعاود، كما قال رجل لنفسه‏:‏ تتكلمين فيما لا يعنيك ‏؟‏ لعاقبنك بصوم سنة‏.‏

3ـ الفصل الثالث ‏:‏في علامات مرض القلب وعوده إلى الصحة‏.‏وبيان الطريق إلى معرفة الإنسان عيوب نفسه‏.‏

اعلم‏:‏ أن كل عضو خلق لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل، أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد تعذر البطش، ومرض العين تعذر الإبصار، ومرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله، وهو العلم والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى وعبادته، وإيثار ذلك على كل شهوة‏.‏ فلو أن الإنسان عرف كل شئ ولم يعرف الله سبحانه، كان كأنه لم يعرف شيئاً‏.‏ وعلامة المعرفة‏:‏ الحب، فمن عرف الله أحبه، وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز - وقد سقطت عنها شهوة الخبز - مريضة‏.‏

ومرض القلب خفي قد لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه ، لأن دواءه مخالف الهوى، وإن وجد الصبر لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء والمرض قد استولى عليهم والطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً، واندرس هذا العلم، وأنكر طب القلوب ومرضها بالكلية وأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات فهذه علامة أصل المرض‏.‏وأما عافيته وعوده إلى الصحة بعد المعالجة، فهو أن ينظر إلى العلة، فإن كان يعالج داء البخل، فعلاجه بذل المال، ولكنه لا يسرف، ويصير إلى حد التبذير فيحصل داء آخر فيكون كمن يعالج البرودة بالحرارة الغالبة حتى تغلب الحرارة، فيكون داءً أيضاً، بل المطلوب الاعتدال‏.‏ وإذا أرادت أن تعرف الوسط، فانظر إلى نفسك، فإن كان إمساك المال وجمعه ألذ عندك، وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل، فعالج نفسك على البذل، وإن صار البذل للمستحق ألذ عندك، وأخف عليك من الإمساك فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الامساك، ولا تزال تراقب نفسك ، وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها، حتى تنقطع علاقة قلبك عن المال فلا تميل إلى بذله ولا إمساكه، بل يصير عندك كالماء، فلا تطلب فيه إمساكه لحاجة محتاج، أو بذله لحاجة محتاج، فكل قلب صار كذلك، فقد جاء الله سليماً في هذا المقام‏.‏ ويجب أن يكون سليماً على سائر الأخلاق حتى لا تكون له علاقة بشيء من الدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها، غير ملتفته إليها، ولا متشوقة إلى أسبابها، فحينئذ ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنةولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض، بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف فلا جرم من استوى على هذا الصراط في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، ولأجل عسر الاستقامة أمر العبد أن يقول في كل يوم مرات ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة ‏:‏6‏]‏، ومن لم يقدر على الاستقامة، فليجتهد على القرب من الاستقامة فان النجاة بالعمل الصالح‏.‏ ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليشتغل بعلاج واحد بعد واحد، وليصبر ذو العزم على مضض هذا الأمر، فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له، فلو رد إلى الثدي لكرهه، ومن عرف قصر العمر بالنسبة إلى مدة حياة الآخرة حمل مشقة سفر أيام لتنعم الأبد، فعند الصباح يحمد القوم السُّرَى‏.‏

واعلم‏:‏ أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت له بصيرة، لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن اكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه‏.‏فمن أراد الوقوف على عيب نفسه فله في ذلك أربع طرق‏:‏الطريقة الأولى‏:‏ أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، يعرف عيوب نفسه وطرق علاجها، وهذا قد عز في هذا الزمان وجوده، فمن وقع به، فقد وقع بالطبيب الحاذق فلا ينبغي أن يفارقه ‏.‏الطريقة الثانية‏:‏ أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، وينصبه رقيباً على نفسه لينبهه على المكروه من أخلاقه وأفعاله‏.‏ وقدكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول‏:‏ رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا‏.‏وسأل سلمان رضى الله عنه لما قدم عليه من عيوبه، فقال‏:‏ سمعت أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وان لك حلتين‏:‏ حلة بالليل، وحلة بالنهار، فقال‏:‏ هل بلغك غير هذا‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أما هذا فقد كفيتهما‏.‏وكان عمر رضى الله عنه يسأل حذيفة‏:‏ هل أنا من المنافقين‏؟‏ وهذا لأن كل من علت مرتبته في اليقظة زاد اتهامه لنفسه، إلا أنه عز في هذا الزمان وجود صديق على هذه الصفة، لأنه قل في الأصدقاء من يترك المداهنة، فيخبر

بالعيب أو يترك الحسد، فلا يزيد على قدر الواجب‏.‏ وقد كان السلف يحبون من ينبههم على عيوبهم، ونحن الآن في الغالب أبغض الناس إلينا من يعرفنا عيوبنا‏.‏ وهذا دليل على ضعف الإيمان، فإن الأخلاق السيئة كالعقارب، لو أن منبهاً نبهنا على أن تحت ثوب أحدنا عقرباً لتقلدنا له منة، واشتغلنا بقتلها، والأخلاق الرديئة أعظم ضرراً من العقرب على ما لا يخفى‏.‏

الطريقة الثالثة‏:‏ أن يستفيد معرفة نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدى المساوئ، وانتفاع الإنسان بعدو مشاجر يذكر عيوبه، أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يخفى عنه عيوبه‏.‏

الطريقة الرابعة‏:‏ أن يخالط الناس، فكل ما يراه مذموماً فيما بينهم، يجتنبه‏.‏

4ـ فصل ‏[‏في شهوات النفوس‏]‏

وقد ذكرنا أن شهوات النفوس لم توضع إلا لفائدة ، إذ لولا شهوة المطعم ما حصل تناول الغذاء، ولولا شهوة الجماع لانقطع النسل، وإنما المذموم فضول الشهوات وطغيانها، وثمة قوم لم يفهموا هذا القدر، فأخذوا يتركون كل ما تشتهيه النفس، وهذا ظلم لها بإسقاط حقها، فإن لها حقاً بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏إن لنفسك عليك حقاً” حتى إن قائلاً منهم يقول‏:‏ لى كذا وكذا سنة اشتهي كذا فلا أتناوله، وهذا انحراف عن الحلِّ وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان يتناول المشتهى من الحلو والعسل وغيرهما، فلا يلتفت إلى زاهد قل علمه، فحرم نفسه حظها من المشتهى على الإطلاق، فإنه إلى الظلم أقرب منه إلى العدل، وإنما يترك المشتهى إذا صعبت الطريق إليه، مثل أن لا يحصل إلا بوجه مكروه، أو يخاف من تناوله انحلال عزمه، فتطمع النفس في استدامته، أو يحذر من ذلك زيادة شبع، فيثقله عن عبادته، فأما تناوله في بعض الأوقات لتقوية النفس، فذلك كالطب للمريض، يمدح ولا يذم، ولا بأس بالرفق بالنفس لتقوى على السلوك‏.‏

5ـ بيان علامات حسن الخلق

ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش والمعاصي،ثم ظن أنه قد هذب خلقه،واستغنى عن المجاهدة، وليس كذلك، فإن حسن الخلق هو مجموع صفات المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى فقال ‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون* الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون* أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏ 2-3-4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 112‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ قد أفلح المؤمنون‏}‏ إلى قوله ‏{‏ أولئك هم الوارثون‏}‏ ‏[‏ المؤمنون‏:‏ آية 1-10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ ‏[‏ الفرقان‏:‏ 63‏]‏ إلى آخر السورة، فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات، فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق ووجود بعضها دون البعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده‏.‏ وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده لا يؤمن عبداً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه‏"‏‏.‏ وفيهما أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت‏"‏ وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً‏"‏‏.‏ ومن حسن الخلق‏:‏ احتمال الأذى، ففى الصحيحين أن أعرابياً جذب رداء النبى صلى الله عليه وآله وسلم حتى أثرت حاشيته في عاتقه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال‏:‏ يا محمد، مر لى من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء‏.‏وكان إذا آذاه قومه قال‏:‏ ‏"‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏"‏ وكان أويس القرني إذا رماه الصبيان بالحجارة يقول‏:‏ يا إخوتاه، إن كان ولابد‏.‏‏.‏‏.‏ فارموني بالصغار لئلا تدموا ساقي فتمعنوني من الصلاة‏.‏ وخرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البرارى، فاستقبله جندي فقال‏:‏ أين العمران‏؟‏ فأشار إلى المقبرة، فضرب رأسه فشجه، فلما أخبر أنه إبراهيم، جعل يقبل يده ورجله، فقال‏:‏ إنه لما ضرب رأسي سألت الله له الجنة، لأني علمت أنى أوجر بضربه إياي فلم أحب أن يكون نصيبي منه الخير، ونصيبه منى الشر، وأجتاز بعضهم في سكة، فطرح عليه رماد من السطح، فجعل أصحابه يتكلمون‏.‏ فقال‏:‏ من استحق النار فصولح على الرماد، ينبغي له أن لا يغضب‏.‏ فهذه نفوس ذللت بالرياضة، فاعتدلت أخلاقهم، ونقيت عن الغش بواطنها، فأثمرت الرضى بالقضاء، ومن لم يجد من نفسه بعض هذه العلامات التي وجدها هؤلاء، فينبغي أن يداوم الرياضة ليصل، فإنه بعد ما وصل‏.‏

6ـ فصل في رياضة الصبيان في أول النشوء

اعلم‏:‏ أن الصبي أمانة عند والديه، وقلبه جوهرة ساذجة، وهى قابلة لكل نقش، فإن عود الخير نشأ عليه وشاركه أبواه ومؤدبه في ثوابه،وإن عود الشر نشأ عليه، وكان الوزر في عنق وليه، فينبغي أن يصونه ويؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوده التنعم، ولا يحبب إليه أسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر‏.‏ بل ينبغي أن يراقبه من أول عمره، فلا يستعمل في رضاعة وحضانته إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا بدت فيه مخايل التمييز وأولها الحياء، وذلك علامة النجابة وهى مبشرة بكمال العقل عند البلوغ، فهذا يستعان على تأديبه بحيائه‏.‏ وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام، فينبغي أن يعلم آداب الأكل، ويعوده أكل الخبز وحده في بعض الأوقات لئلا يألف الإدام فيراه كالحتم، ويقبح عنده كثرة الأكل، بأن يشبه الكثير الأكل بالبهائم، ويحبب إليه الثياب البيض دون الملونة والإبريسم ويقرر عنده أن ذلك من شأن النساء والمخنثين، ويمنعه من مخالطة الصبيان الذين عودوا التنعم، ثم يشغله في المكتب بتعليم القرآن والحديث وأحاديث الأخبار، ليغرس في قلبه حب الصالحين، ولا يحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق‏.‏

ومتى ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمول، فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى بما يفرح به، ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال تغوفل عنه ولا يكاشف، فإن عاد عوتب سراً وخوف من اطلاع الناس عليه، ولا يكثر عليه العتاب، لأن ذلك يهون عليه سماع الملامة، وليكن حافظاً هيبة الكلام معه‏.‏ وينبغى للأم أن تخوفه بالأب، وينبغى أن يمنع النوم نهاراً، فإنه يورث الكسل، ولا يمنع النوم ليلاً ولكنه يمنع الفرش الوطيئة لتتصلب أعضاؤه‏.‏

ويتعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم‏.‏ويعود المشي والحركة والرياضة لئلا يغلب عليه الكسل‏.‏ويمنع أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه أبواه، أو بمطعمه أو ملبسه‏.‏ ويعود التواضع والإكرام لمن يعاشره‏.‏ويمنع أن يأخذ شيئا من صبى مثله، ويعلم أن الأخذ دناءة، وأن الرفعة في الإعطاء‏.‏ويقبح عنده حب الذهب والفضة‏.‏ويعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يتمخط ، ولا يتثاءب بحضرة غيره،ولا يضع رجلا على رجل، ويمنع من كثرة الكلام‏.‏ ويعود أن لا يتكلم إلا جواباً، وأن يحسن الاستماع إذا تكلم غيره ممن هو أكبر منه، وأن يقوم لمن هو فوقه ويجلس بين يديه‏.‏

ويمنع من فحش الكلام، ومن مخالطة من يفعل ذلك، فإن أصل حفظ الصبيان حفظهم من قرناء السوء‏.‏ويحسن أن يفسح له بعد خروجه من المكتب في لعب جميل، ليستريح به من تعب التأديب، كما قيل‏:‏ روح القلوب تع الذكر‏.‏ وينبغى أن يعلم طاعة والديه ومعلمه وتعظيمهم‏.‏وإذا بلغ سبع سنين أمر بالصلاة، ولم يسامح في ترك الطهارة ليتعود، ويخوف من الكذب والخيانة، وإذا قارب البلوغ، ألقيت إليه الأمور‏.‏

وأعلم‏:‏ أن الأطعمة أدوية، والمقصود منها تقوية البدن على طاعة الله تعالى، وأن الدنيا لا بقاء لها، وأن الموت يقطع نعيمها، وهو منتظر في كل ساعة، وأن العاقل من تزود لآخرته، فإن كان نشوؤه صالحاً ثبت هذا في قلبه، كما يثبت النقش في الحجر‏.‏ قال سهل بن عبد الله‏:‏ كنت ابن ثلاث سنين، وأنا أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لى خالي يوماً‏:‏ ألا تذكر الله الذي خلقك‏؟‏ قلت‏:‏ كيف أذكره‏؟‏ قال‏:‏ قل بقلبك ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك‏:‏ الله معي، الله ناظر إلى، الله شاهدى، فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمته، فقال‏:‏ قلها في كل ليلة إحدى عشر مرة‏.‏

فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لى خالي‏:‏ احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر ، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت له حلاوة في سري ثم قال لي خالي‏:‏ يا سهل من كان الله معه، وهو ناظر إليه، وشاهد عليه، هل يعصيه‏؟‏ إياك والمعصية ومضيت إلى المكتب، وحفظت القرآن، وأنا ابن ست سنين أو سبع، ثم كنت أصوم الدهر، وقوتي من خبز الشعير، ثم بعد لك كنت أقوم الليل كله‏.‏

7ـ فصل ‏[‏في شروط الرياضة‏]‏

واعلم‏:‏ أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين، أصبح بالضرورة مريداً لها، زاهداً في الدنيا، فإن من كان معه خرزة، فرأى جوهرة نفيسة، لم يبق له رغبة في الخرزة، فإذا قيل له‏:‏ بعها بالجوهرة، أسرع في ذلك‏.‏

واعلم‏:‏ أن من رزقه الله تعالى الانتباه لذلك، فإن عليه لسلوك الرياضة شرطاً لابد من تقديمه، ومعتصماً لابد من التمسك به، وحصناً لابد من التحصن به‏.‏فأما الشرط، فهو رفع الحجاب بترك الذنوب‏.‏وأما المعتصم، فشيخ يدله على الطريق لئلا تختطفه الشياطين في السبل ‏.‏وأما الحصن، فالخلوة ، وعليه من الوظائف مخالفه الهوى، وكثرة الذكر والاقتصاد في الأوراد‏.‏ومنتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله أبداً، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره، ولا يخلو إلا بطول المجاهد، فهذا منهاج رياضة المريد وترتيبه في التدريج، فأما تفصيل الرياضة في كل صفحه، فسيأتي إن شاء الله تعالى ‏.‏